ذكرياتي مع جدي في ثلاثة أجزاء
قصة من ثلاثة أجزاء قصيرة يكتبها لكم : رضا صميده .. للتعريف ببعض التراث الذي كاد أن ينتهي ..
الجزء الأول .
قمنا باكرا بأمر من جدي وكلٌ يعرف واجبه انطلق أبي ( للمدور ) يتفقد شياهه ، فاجأه جدي ببعض الأوامر اليومية ( قرّس الجديان ) قبل ما تمشي ( للرعاية ) ورد بالك من ( الشَقْره راهي امقربه ) ( وين تجي راقي( للود )خَطِّي ( السّعي للصّـواطه )راهي خايخة الحكاية عقب مطر ( والكاف مهسْهسْ ) وما تنساش قبل ما تروح تدهم ( النقر) وتملأ القربة ، وانت مروح رد بالك من ( القرنة ) راهي ( شومة ) نهارها ( انطلست لشراك ) عمك المختار قرّضتله ( خَلفَة ) وسلم ولدي( السّـعي ) يروح ( بَادِن ) مافيش داعي ( للتّزنيق ) يهز أبي رأسه بكل احترام موافقا على كل هذه الأوامر ومظهرا حرصه على تنفيذها ، وفي الحقيقة لا يملك إلا أن يطيع أ باه ، فعلى ذلك تربى ، خرج جدي من ( المدْور) متجها إلى الدار وبصوته الجهوري ممزوجا بنوع من التودد لجدتي شن يا( فقيرة ) الفطور واتي ؟ راني مستعجل ونبي( نربح ) يجلس وهو يبسمل ويتناول عبودين زميته و( حويرة
) كرموس ويشرب طويسة شاهي ثم يقف ويشير إليَّ بيده أن إتبعني ،انطلق تجاه( المدور ) ومنه إلى السقيفة حتى وصل ( القوس ) وأنا أهرول خلفه ، حرك المِدْراج ثم فتح باب ( القوس )، التفت إلي قائلا : شن تبّي نجيبلك معاي من السوق يا ولدي ؟ وكأنه يعرف الإجابة فنقول معا ً ( ُطربيقة ) أبتسمتُ وابتسمَ ابتسامة خفيفة ، فقد كان الضحك بصوت عالٍ يعتبر عيبا في تلك الأيام ، اتجه جدي إلى ( الديدبان ) وأخرج حماره بعد أن فك ( اَلهجار ) وضع البردعة على ( السّحْراوي ) وشدّ ( التفرْ ) و ( شكّمَه ) وحاذاه إلى عقاب قرمة وركزْ وركبْ ، إلتفت إلي وبنظرة المربِّي وكأنّه ينتظر أن أقول شيئا ففهمت ( مربوحة يا جدي ) هز رأسه مع ميل قليل تعبيرا عنِ الرضا وقال مبتسما هكَِّي نبِّيك ( مِـتْـيَدّبْ ) التفت عني نغز حماره ( تِرِّي ) .
حدث ذلك كله ولم تشرق الشمس بعد .
ومن شروق الشمس إلى مغيبها حكايات وأروع الذكريات مع جدي رحمه الله .
انتظروا أجمل الحكايا .
معاني الكلمات التي ربما لم يفهمها البعض من الجيل الحاضر .
المدور : يشبه الدار في حوش الحفر ويكون ما بين السقيفة والفناء وسبب التسمية دوران الجمل فيه عند الدخول والخروج .
قرّس : التقريس هو وضع لجام للجدي لمنعه من الرضاعة .
الشقرة : تسمية للشاة التي يكون أكثر لون وجهها أبيض .
مقرّبة : ستلد قريبا
اللود : منتصف الجبل
الصواطة : صخرة كبيرة .
مهسهس : رخو .
النقر : حفرة في الحجر تمتلئ بمياه الامطار .
القرنة : تطلق على الشاة التي كسر قرن من قرنيها .
شومة : حادة الطباع .
الشراك : قطعة من الارض .
خلفة : شجرة زيتون صغيرة .
بادن : كبر بطنه من الشبع .
التزنيق : ارغام الشياه على الرعي في مكان معين .
فقيرة : من القاب النساء عندما يصلن إلى عمر معين .
القوس : مدخل حوش الحفر .
المدراج : قطعة من الخشب تستعمل كقفل .
طربيقة : مصيدة للطيور .
الديدبان : مكان للحمار .
الهجار : حبل لتقييد الحيوانات .
السحراوي : نوع من الحمير الكبيرة الحجم .
التفر : حزام .
الجزء الثاني ..
بعد توديعي لجدي ، عدت سريعا إلى البيت عبر السقيفة الطويلة ، عرجت على (الحناية ) نزعت المعرقة وملأتها با لــ (الكرموس اليابس ) ، وأكملت خطواتي إلى وسط الحوش ، ومنه إلى الدار فوجدت جدتي وقد فرشت ( الرقعة ) وهي تقول لأختي الكبرى : ترا يابنيتي جيبيلي (الرحى ) وماتنسيش ( الشظاظ ) ، مافياش جهد ليها ، وهمت بالجلوس وهي تتمتم .. ياجلاي الكروب يامطلوب ,, جاءت أختي بالرحى ووضعتها أمام جدتي ، وقفلت مسرعة لتأتي بنصف ( مرطة ) من الشعير ، فقد درجت العادة أنه يوم الأحد والخميس ، وهما يومان يذهب فيهما جدي إلى السوق ، يكون الغذاء في هذين اليومين ( بازين )
، في تلك الأيام كانت المرأة ، تقوم برحي الحبوب بجميع أنواعها في البيت ، بواسطة الرحى الحجرية فكانت تطحن الشعير والقمح ، لعمل الخبز وباقي انواع الأكل الأخرى .
وكان ذلك كله يتم في غضون سويعات قليلة ، فالحياة كانت بسيطة وغير معقدة .
نرجع إلى جدتي التي جلست استعدادا لرحي الشعير ، في الوقت التي جاءت فيه أمي من الدار المجاورة لتقول لجدتي :: خلي عليك يا عمتي ، نوضي اطفي وتوا أني نرحي للخبزة والبازين .
: باهي يابنيتي ( ربحتي ) التفتت جدتي ناحيتي وهي تقف بتثاقل : امّاله اطلع ياوليدي جيبلي ( حطيبات ) ، خرجت مسرعا وعدت بالحطب بينما جهزت جدتي ( المناصب ) .
وغغغغغ وغغغغ .. إنه أخي الرضيع يصرخ أسرعت لأمي : يمه ,, يمه ,, خووووي يعييييط ! واضطررت لزيادة نبرة صوتي لتسمعني أمي ، فقد كانت جعجعة الرحى وغناء أمي ، يملآن المكان . وغناء الرحى ، من الفنون النادرة التي تميز المرأة الليبية ، فهو فن ليبي صرف ، يشكل صوت الرحى فيه الآلة الموسيقية الوحيدة ، وكلمات هذه الأغاني عادة ، تكون في الفخر والاعتزاز بالأب والأخوة ، أو تتناول أشياء تخص النساء .
سكتت أمي عن الغناء والرحي .. لأكرر لها :: خوي ( يعيط )
عندها نظرت أمي لأختي ،التي كانت تعرف ما يجب فعله ، واستأنفت هي الرحي والغناء ، تبعت أختي فطعم ( اللحوس ) لا يقاوم ، وقد تعودت عندما يُعطَى لأخي ، أن يكون لي نصيب منه ، في هذه الأثناء يدخل عمي مهرولا !! وبصوته الحاد ذو النبرة العالية متجها الى دار جدي : وين ( أم حريب ) يمه ؟ وبسرعة تناولها بيده ، ليجد جدتي وقد امسكت بكتفيه تهزه قائلة : وين ياولدي تبي بالبندقة انشالله ما فيه سو !!يطمئنها على عجل : ما تخافيش يمه لا تخافي ..غير تلامحت ذيب في الوادي !! وانطلق .
جلست جدتي مكانها ، وقد نال منها هذا الموقف ، وبينما تركت أمي تقوم بتهدئتها ، انطلقت أنا خارج البيت لأعتلي ( الكدوة ) علـّني أرى عمي ، وهو يصيد الذئب .وما هي إلا ساعة ، حتى دوّى صوت عيار ناري ، رددته الجبال والوديان ، تبعه عواء ذئب أصابته الرمية في مقتل .
لم يمض الكثير من الوقت حتى رجوع جدي من السوق ، وقد تزامنت عودته مع عودة عمي وهو يجر صيده الثمين ، ممتشقا البندقية وكله ثقة بالنفس ، ولكنه كان يخفي بعض الخوف من أبيه ، ترى ذلك واضحا في عينيه ، كونه استخدم البندقية بدون إذن ، وقبل أن يتساءل جدي ؟؟؟ قمت أنا بسرد القصة عليه كاملة ، ولم ينزل عن حماره بعد ، التفت جدي مخاطبا عمي : وين جاته الرمية ؟ أجاب عمي وهو مزهو بنفسه : في الراس يا بوي . نزل جدي عن حماره وعلامات الرضا بادية على وجهه وقد غفَرتْ لعمي إجابتُه وكأني أسمع جدي يقول : لقد كبر ابني وأصبح رجلا .
توجه جدي إلى البئر ليتوضأ ويصلي الظهر ، بينما وضع عمي صيده الثمين في مكان آمن ، ليعطيه فيما بعد لأحد الأقارب ، الذي كان يعاني من مرض عضال ،اتفق حكماء القرية ، على أن لحم الذئب سيخفف من معاناته ، بل وزعم بعضهم أن لحم الذئب وكبده ، هو الدواء الفعال لمثل حاله .
انزلنا ما أتى به جدي من السوق ، ووُضع كل شي في مكانه ( السكة )
و ( المحشّة ) و ( المناجل ) و( المقط ) و ( التّاجوق ) و( المنداف ) وكانت ( الشواري ) معبأة بما لذ وطاب ، أما ما يخص جدتي من حناء وعطور ، فقد خبأه جدي داخل ( الخُرج ) .
دخلنا الحوش : الغذا واتي يا فقيرة ؟
أجابت جدتي : واتي ويراجي فيكم .
:هي قولوا بسم الله ، قبل ما يبرد البازين .
حدث ذلك كله ولم يأتي المساء بعد .
ومن شروق الشمس إلى مغيبها ، حكايات وأروع الذكريات مع جدي .
انتظروا – الجزء الثالث من
ذكرياتي مع جدي إلى اللقاء
معاني الكلمات التي ربما تكون غير معروفة للبعض أو لغير الليبيين .
الحناية : غرفة تكون في السقيفة .
الرقعة : قطعة من الجلد توضع تحت الرحى يجمع فيها الطحين .
الشظاظ : قطعة من أعواد شجرة الزيتون تثبت في طرف الرحى .
المرطة : من المكاييل .
المناصب : الاثافي وهي ثلاثة أحجار توضع تحت القدر.
اللحوس :خليط من المكسرات المحمصة مع حبوب القمح وانواع الكمون يطحن ويخلط بزيت الزيتون والعسل أو السكر ويعطى كوجبة أساسية للطفل .
ام حريب : نوع من البنادق الدقيقة الهدف .
الكدوة : تراب الحفر يكوم ويشبه التبة الصغيرة .
السكة : قطعة من الحديد تثبت في المحراث الخشبي .
المحشة : نوع من المناجل الصعيرة .
المنجل : يستعمل للحصاد .
المقط : نوع من الحبال .
التاجوق : نوع من الفؤوس .
المنداف : نوع من المصائد للحيوانات الكبيرة الحجم كالذئب والضبع .
الشواري : نوع من القفاف الكبيرة الحجم ويصنعان من نبات الحلفاء.
الخرج : مخلاة مزدوجة.
الجزء الثالث ...
في المساء ترى كبار السن ، يلتقون في أحد دكاكين القرية ، يتجاذبون أطراف الحديث ، يشربون( الشاهي ) الشاي بالـــ ( باي ) وهو المساهة في الثمن ، ويستعيدون ذكرياتهم الجميلة في نظرهم ، وفي الواقع هذه الذكريات ، ما هي إلاّ صراع من أجل البقاء ، يستعرضونها وكأن أحداثها دارت منذ أيام .
عادة في أمسيات هذا الفصل من السنة يخيم على أرجاء قريتنا هدوء غريب ، مساءٌ ساكن إلاّ من صياح ديك ، أو نباح كلب هرم بصوت رخو ، هواقرب ما يكون الى الانين ،وتستمر حالة الهدوء هذه الى قبيل الغروب حين يرجع الرعاة بأغنامهم ، عندها يتحول هذا الهدوء إلى جلبة وصخب ، تختلط فيها الأصوات لتشكل سمفونية تتداخل وتتجانس فيها الأنغام ، يتصدر ثغاء الخراف وصياح الماعز واجهة السمفونية ، بينما يشكل رغاء الإبل وخوار البقر خلفية الموسيقا ، و تزخرف الكلاب بنباحها هذه النوتة وكأنها آلات نحاسية ، لتكمل هذا المشهد ( الاُوبِّرالى ) الجميل .
ما أجمل هذا المشهد رغم انه لا يدوم لأكثر من ساعة ، إلا انه مشهد لا يمحى من الذاكرة ، يتقدم بعض الرعاة قطعان الماشية ، للحد من سرعتها ، كيلا تلحق ضرراً بالجداء أوالخراف الصغيرة عندما تتزاحم في المسارب والطرقات الضيقة ، اثناء عودتها إلى القرية ، يتقدم كل قطيع من هذه القطعان زعيم ، رضي به القطيع ليكون رئيسا ً له ، وهو عادة يكون شاة كبيرة في السن أو فحلا من الماعز ، يأتمر كل قطيع بأمر زعيمه ، ولا يخالف مسلكه ، وترى ذلك واضحا عند وصول كل قطيع إلى مكانه ، فترى الزعيم ينحرف إلى بيت مالكه ، ليتبعه باقي القطيع ، في حين تكمل بقية القطعان مسيرتها عبر مسارب القرية ، ليرجع كل قطيع
إلى بيت مالكه وهكذا ، والذي لا يعرف هذه الأمور يستغرب أيما استغراب في كيفية انقسامها بهذه الطريقة السلسة رغم ان تعدادها بالمئات .
ترجع القطعان نشطة وبطونها ملأى ، فتشرع النساء في حلب الشياه لوجبة العشاء ، ويوضع الفائض في القرب ( ليروب ) ثم يمخض ليستخرج منه الزبد واللبن الحامض ، توقد ( الفنارات ) الأسرجة ويجتمع كل من في البيت ليبدأ السمر على ضوء الشموع والاسرجة ، بعد يوم حافل من آخرأيام الربيع ، في الستينيات من القرن الماضي بقريتي ( السقائف الجميلة ).
ودمتم بسلام