الحبُّ الخالد .
كان الحاج رمضان شيخا في السبعين من عمره ، يعيش مع زوجته الحاجة سالمة في بيتهما ، بأحدى القرى ، يتعاونان على ما تبقى لهما في هذه الحياة ، التي أمضيا فيها قرابة الخمسين عاما مع بعضهما ، اقتسما فيها الحلوة والمرّة ، يتعاونان على كل أمور الحياة اليومية ، من طهي للطعام وغسيل ، ألى غير ذلك من هذه الامور، وقد خرجا من هذه الدنيا ببنت واحدة ، تزوجت وسافرت مع زوجها ، وهي تأتي لزيارتهما مرة أو مرتين في العام ، ورغم أنها ألحت عليهما في الذهاب معها ، ليعيشا تحت رعايتها ، وتقوم بخدمتهما ، إلّا أنهما آثرا البقاء في قريتهما ، وعدم الخروج منها ، وكان الحاج رمضان يتقاضى مرتبا تقاعديا بسيطا ، بالكاد يكفيه وزوجته حتى نهاية الشهر، ولكنه كان دائم الحمد شاكرا لله ، أنه وفقه لأختيار زوجة صالحة ، لم تتخل عنه أو تغضبه يوما ، وكان يحبها حبا لا يوصف ، وفي يوم من أيام الصيف ، نهض كعادته باكرا وأيقظ زوجته ، وصليا الفجر ثم جلسا كعادتهما يتجاذبان أطراف الحديث ، ونهضت الحاجة سالمة لتأتي بعلبة الحليب من الثلاجة لأعداد الفطور، وهي تقول للحاج رمضان : أنها اشتهت البطيخ ( الدلّاع ) فرد عليها الحاج رمضان : بأنه سيذهب اليوم الى السوق ويأتي ببطيخة ، رغم أن المعاش التقاعدي قد تأخر قليلا هذا الشهر ، ولكنه لا يريد أن يظهر هذا لزوجته ، وهي لا تعرف أن كل المبلغ الذي معه ثلاثة دينارات لا أكثر ، ورغم ذلك وبدافع حبّه لزوجته ، ذهب الى السوق الذي لايبعد كثيرا عن منزله ، ليأتي لزوجته بما اشتهت نفسها ، ووقف أمام السوق بعد ان قرأ في نفسه دعاء دخول السوق ، وبمجرد انتهاءه من الدعاء ، إذ برجل حسن الهيئة يقف أمامه ، فحاول الحاج رمضان ان يتجنبه ويدخل السوق ، ولكن الرجل اعترض طريقه ، وهنا وقف الحاج رمضان مستغربا ، وسأل الرجل : ماذا تريد مني أيها السيد ؟ فأجاب الرجل بكل هدوء : اريد ثلاثة دينارات ، فما كان من الحاج رمضان إلّا أن أدخل يده في جيبه ، واخرج الدينارات الثلاثة ، وأعطاها للرجل بدون تردد ، فقد اعتاد الحاج رمضان على عدم رد السائل ، حتى وإن كانت هذه الدينارات الثلاثة هي كل ما يملك ، أخذ الرجل النقود وذهب ، وما كان من الحاج رمضان إلّا أن ولى أدراجه ، ليجلس أمام السوق قليلا ويلتقط أنفاسه ، استعدادا لمشوار العودة ، جلس الحاج رمضان على كرسي قدمه له احد أصحاب المحلات ليستريح ، وتفكيره قد سبقه الى زوجته الحبيبة ، وكيف سيصنع بعد أن وعدها ، فكر أن يستلف بعض النقود ، ليشتري لزوجته ما طلبته منه ، ولكنه لم يتعود على ذلك ، ولم يستلف نقودا طيلة حياته ، وفضل الرجوع خالي الوفاض ، بدل ان يمد يده ليستلف ، وبينما هو في أخذ ورد مع نفسه ، إذ بنفس الرجل يقف أمامه قائلا له بلهجة مؤنبة : مالك يا رجل !هل ندمت على اعطائك لي هذا المبلع الزهيد ؟ حتى تجلس وتفكر وتضرب أخماسا في أسداس ، ورد له النقود ، فأبى الحاج رمضان أخذ النقود قائلاً للرجل : أنه لم يندم على فعل الخير يوما ابدا ، ولكن الرجل اصرّ على إرجاع النقود الى الحاج رمضان ، وأقسم عليه أن يأخذها ، وعندما رأى الحاج رمضان إصرار الرجل وسمع قسمه ، رضي بأخذ نقوده ، وقد بادره الرجل بقسم آخر قائلاً : ( والله إنك لن تستفيد بما ستشتريه بهذه الدينارات الثلاثة ) وذهب الرجل مسرعا ، والحاج رمضان ينظر إليه ، حتى توارى عن أنظاره ، استغرب الحاج رمضان من كلام هذا الرجل وتصرفاته ، ولكنه فرح بعودة نقوده إليه ، فهو يستطيع الآن أن يشتري البطيخة لتلك الحبيبة ،التي امضت معه عمرها بشبابه وكهولته وشيخوخته ، دخل الحاج رمضان السوق ، واشترى البطيخة وهو في حالة من السرور ، أخذ البطيخة بين يديه وخرج مسرعا ، ولم ينتبه الى الطريق حتى سمع صوت فرامل إحدى السيارات مصحوبا بزمجرة المنبه ، فقد كادت سيارة نقل كبيرة أن تصدمه ، لولا أن البطيخة امتصت الصدمة .
ضربت السيارة البطيخة ونجا الحاج رمضان بإعجوبة ، تجمّع الناس يهنئون الحاج رمضان بالسّلامة من هذا الحادث ، الذي كاد أن يودي بحياته ، أخذ السائقُ الحاج الى المستشفى ، للتاكد من سلامة يديه اللتين كانتا تحمل البطيخة ، وبعد الفحوصات ،اكد الطبيب ان اليدين لم يلحق بهما أي أذى .
خرج الحاج رمضان برفقة سائق السيارة من المستشفى ، وقد اصرّ السائق أن يقوم بإيصال الحاج رمضان إلى بيته بسيارته ، وفي طريق العودة عرّج سائق السيارة على السوق ، وترجّل متجها إلى السوق ليعود بعد وقت وجيز ، وخلفه بعض الشباب وهم يحملون من أصناف الفاكهة والخضار والمشروبات الكثير ، حتى امتلأ صندوق سيارة النقل تماما ، ولم يحتمل المزيد ، عندها أدار سائق السيارة المحرك ، وسأل الحاج عن مكان سكنه ، وانطلق ، وفي طريق العودة اخذ الحاج يفكر في قول ذاك الرجل الذي التقى به في السوق ، وبدأ يربط الأحداث ، ولكنه لم يتوصل لشيء ، فها هو يرجع لزوجته خالي اليدين ، فقد ضاعت البطيخة وضاع معها الامل في ادخال السرور على رفيقة دربه الطويل ، وصل الحاج الى بيته ، ترجل من السيارة ، وبينما هو يهم بتوديع صاحب السيارة ، إذ بصاحب السيارة يسبقه ، ويبدأ في انزال حمولة السيارة الى داخل البيت ، وسط دهشة الحاج رمضان ، فلم يفكر الحاج رمضان بأن حمولة السيارة تخصه ، وكانت الحاجة سالمة أشد استغراباً ، فقد طلبت بطيخة واحدة ، فإذا بالحاج قد عاد لها بالعشرات ، هذا فضلاً عن أنواع الفاكهة والخضار والمأكولات المعلبة وغيرها ، والتي تكفي لأكثر من عائلة ، ولمدة اسابيع ، طلب سائق السيارة الصفح من الحاج رمضان وذهب وهو راض عن نفسه ، وجلس الحاج ليحكي لحبيبته اغرب قصة مرت به في حياته ، وقد أكدت له الحاجة سالمة ، أنها لو علمت بأنه لا يملك إلّا ثلاثة دينارات ، لما طلبت منه ان يحضر لها شيئا ، ولكن الله يقدر ويخلق الأسباب ليفعل ما يريد ، واراد الله ان تكتمل فرحتهما ، بوصول ابنتهما من السفر ، لتستقر في منزلها الملاصق لمنزل أبيها ، ويجتمع شمل الأحبة ، وما كان ليحدث هذا ، لولا حب هذا الشيخ لزوجته ، ولولا حب هذه الزوجة الصالحة لزوجها ، فالحب والوفاء سر سعادة الإنسان .